تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 423 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 423

423 : تفسير الصفحة رقم 423 من القرآن الكريم

** وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً مّبِيناً
قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة} الاَية, وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق ليخطب على فتاه زيد بن حارثة رضي الله عنه, فدخل على زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها فخطبها, فقالت: لست بناكحته, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بلى فانكحيه» قالت: يارسول الله أؤامر في نفسي ؟ فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الاَية على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إِذا قضى الله ورسوله أمر} الاَية, قالت: قد رضيته لي يارسول الله منكحاً ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» قالت: إِذاً لا أعصي رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنكحته نفسي.
وقال ابن لهيعة عن ابن أبي عمرة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش لزيد بن حارثة رضي الله عنه فاستنكفت منه وقالت: أنا خير منه حسباً, وكانت امرأة فيها حدة, فأنزل الله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة} الاَية كلها, وهكذا قال مجاهد وقتادة ومقاتل بن حيان أنها نزلت في زينب بنت جحش رضي الله عنها حين خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه, فامتنعت ثم أجابت. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها وكانت أول من هاجر من النساء, يعني بعد صلح الحديبية, فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم, فقال: قد قبلت, فزوجها زيد بن حارثة رضي الله عنه ـ بعد فراقه زينب, فسخطت هي وأخوها وقالا: إِنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجنا عبده, قال: فنزل القرآن {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إِذا قضى الله ورسوله أمر} إِلى آخر الاَية, قال: وجاء أمر أجمع من هذا {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} قال: فذاك خاص وهذا أجمع.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه, قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم على جليبيب امرأة من الأنصار إِلى أبيها, فقال: حتى أستأمر أمها, فقال النبي صلى الله عليه وسلم «فنعم إِذاً» قال: فانطلق الرجل إِلى امرأته فذكر ذلك لها, قالت: لاها الله ذا ماوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلا جليبيباً وقد منعناها من فلان وفلان, قال: والجارية في سترها تسمع, قال: فانطلق الرجل يريد أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك, فقالت الجارية: أتريدون أن تردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره, إِن كان قد رضيه لكم فأنكحوه, قال: فكأنها جلت عن أبويها, وقالا: صدقت فذهب أبوها إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إِن كنت رضيته فقد رضيناه, قال صلى الله عليه وسلم «فإِني قد رضيته» قال: فزوجها, ثم فزع أهل المدينة فركب جليبيب, فوجدوه قد قتل وحوله ناس من المشركين قد قتلهم, قال أنس رضي الله عنه: فلقد رأيتها وإِنها لمن أنفق بيت بالمدينة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا حماد يعني ابن سلمة عن ثابت عن كنانة بن نعيم العدوي, عن أبي برزة الأسلمي قال: إِن جليبيباً كان امرأ يدخل على النساء يمر بهن ويلاعبهن, فقلت لامرأتي: لا يدخلن اليوم عليكن جليبيباً فإِنه إِن دخل عليكن لأفعلن ولأفعلن, قالت: وكانت الأنصار إِذا كان لأحدهم أيم لم يزوجها حتى يعلم هل للنبي صلى الله عليه وسلم فيها حاجة أم لا, فقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار «زوجني ابنتك» قال: نعم وكرامة يارسول الله ونعمة عين, فقال صلى الله عليه وسلم: «إِني لست أريدها لنفسي» قال: فلمن يارسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم «لجليبيب» فقال: يارسول الله أشاور أمها, فأتى أمها, فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ابنتك ؟ فقالت: نعم ونعمة عين, فقال: إِنه ليس يخطبها لنفسه إِنما يخطبها لجليبيب, فقالت: أجليبيب إنيه أجليبيب إنيه ؟ ألا لعمر الله لا نزوجه, فلما أراد أن يقوم ليأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبره بما قالت أمها, قالت الجارية: من خطبني إِليكم ؟ فأخبرتها أمها, قالت: أتردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ؟ ادفعوني إِليه, فإِنه لن يضيعني, فانطلق أبوها إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: شأنك بها فزوجها جليبيباً, قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة له, فلما أفاء الله عليه قال لأصحابه رضي الله عنهم «هل تفقدون من أحد» ؟ قالوا: نفقد فلاناً ونفقد فلاناً, قال صلى الله عليه وسلم «انظروا هل تفقدون من أحد» قالوا: لا. قال صلى الله عليه وسلم: «لكنني أفقد جليبيباً» قال صلى الله عليه وسلم «فاطلبوه في القتلى» فطلبوه فوجدوه إِلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه, فقالوا: يارسول الله هاهوذا إِلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه, فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عليه فقال «قتل سبعة وقتلوه, هذا مني وأنا منه» مرتين أو ثلاثاً, ثم وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ساعديه وحفر له ماله سرير إِلا ساعد النبي صلى الله عليه وسلم, ثم وضعه في قبره ولم يذكر أنه غسله رضي الله عنه, قال ثابت رضي الله عنه: فما كان في الأنصار أيم أنفق منها. وحديث إِسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ثابتاً: هل تعلم ما دعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: قال «اللهم صب عليها الخير صباً ولا تجعل عيشها كداً» وكذا كان, فما كان في الأنصار أيم أنفق منها, هكذا أورده الإمام أحمد بطوله, وأخرج منه مسلم والنسائي في الفضائل قصة قتله. وذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب أن الجارية لما قالت في خدرها: أتردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ؟ نزلت هذه الاَية {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إِذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}.
وقال ابن جريج: أخبرني عامر بن مصعب عن طاوس قال: إِنه سأل ابن عباس عن ركعتين بعد العصر فنهاه, وقرأ ابن عباس رضي الله عنه {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إِذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} فهذه الاَية عامة في جميع الأمور, وذلك أنه إِذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته, ولا اختيار لأحد هنا, ولا رأي ولا قول, كما قال تبارك وتعالى: {فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليم} وفي الحديث «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به» ولهذا شدد في خلاف ذلك, فقال {ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبين} كقوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}.

** وَإِذْ تَقُولُ لِلّذِيَ أَنعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهَ وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النّاسَ وَاللّهُ أَحَقّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمّا قَضَىَ زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيَ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً
يقول تعالى مخبراً عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قال لمولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه وهو الذي أنعم الله عليه أي بالإسلام ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم {وأنعمت عليه} أي بالعتق من الرق, وكان سيداً كبير الشأن جليل القدر حبيباً إِلى النبي صلى الله عليه وسلم يقال له الحب, ويقال لابنه أسامة الحب بن الحب, قالت عائشة رضي الله عنها: ما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية إِلا أمره عليهم, ولو عاش بعده لاستخلفه, رواه الإمام أحمد عن سعيد بن محمد الوراق ومحمد بن عبيد عن وائل بن داوود عن عبد الله البهي عنها.
وقال البزار: حدثنا خالد بن يوسف, حدثنا أبو عوانة, ح وحدثنا محمد بن معمر, حدثنا أبو داود حدثنا أبو عوانة, أخبرني عمر بن أبي سلمة عن أبيه قال: حدثني أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: كنت في المسجد فأتاني العباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما: فقالا: ياأسامة استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقلت: علي والعباس يستأذنان, فقال صلى الله عليه وسلم: «أتدري ما حاجتهما ؟» قلت: لا يارسول الله, قال صلى الله عليه وسلم: «لكني أدري» قال: فأذن لهما, قالا: يارسول الله جئناك لتخبرنا أي أهلك أحب إِليك ؟ قال صلى الله عليه وسلم «أحب أهلي إِلي فاطمة بنت محمد» قالا: يارسول الله ما نسألك عن فاطمة, قال صلى الله عليه وسلم «فأسامة بن زيد بن حارثة الذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه» وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زوجه بابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها, وأمها أميمة بنت عبد المطلب, وأصدقها عشرة دنانير وستين درهما, وخماراً وملحفة ودرعاً, وخمسين مداً من طعام وعشرة أمداد من تمر, قاله مقاتل بن حيان, فمكث عنده قريباً من سنة أو فوقها, ثم وقع بينهما, فجاء زيد يشكوها إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: «أمسك عليك زوجك واتق الله» قال الله تعالى: {وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير ههنا آثاراً عن بعض السلف رضي الله عنهم, أحببنا أن نضرب عنها صفحاً لعدم صحتها فلا نوردها.
وقد روى الإمام أحمد ههنا أيضاً حديثاً من رواية حماد بن زيد عن ثابت, عن أنس رضي الله عنه فيه غرابة تركنا سياقه أيضاً. وقد روى البخاري أيضاً بعضه مختصراً فقال: حدثنا محمد بن عبد الرحيم, حدثنا معلى بن منصور عن حماد بن زيد, حدثنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إِن هذه الاَية {وتخفي في نفسك ما الله مبديه} نزلت في زيد, حدثنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه. قال: إن هذه الاَية {وتخفي في نفسك ما الله مبديه} نزلت في شأن زينب بنت حجش وزيد بن حارثة رضي الله عنهما. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا علي بن هاشم مرزوق, حدثنا ابن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان قال: سألني علي بن الحسين رضي الله عنهما ما يقول الحسن في قوله تعالى: {وتخفي في نفسك ما الله مبديه} فذكرت له, فقال: لا ولكن الله تعالى أعلم نبيه أنها ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها, فلما أتاه زيد رضي الله عنه ليشكوها إِليه قال: «اتق الله وأمسك عليك زوجك» فقال: قد أخبرتك أني مزوجكها وتخفي في نفسك ما الله مبديه. وهكذا روي عن السدي أنه قال نحو ذلك.
وقال ابن جرير: حدثنا إِسحاق بن شاهين, حدثني خالد عن داود عن عامر عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لو كتم محمد صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أوحي إِليه من كتاب الله تعالى لكتم {وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} وقوله تعالى: {فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكه} الوطر هو الحاجة والأرب, أي لما فرغ منها وفارقها زوجناكها, وكان الذي ولي تزويجها منه هو الله عز وجل بمعنى أنه أوحى إِليه أن يدخل عليها بلا ولي ولا عقد ولامهر ولا شهود من البشر.
قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم يعني ابن القاسم, أخبرنا النضر, حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: لما انقضت عدة زينب رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة «اذهب فاذكرها علي» فانطلق حتى أتاها وهي تخمر عجينها, قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إِليها وأقول إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها, فوليتها ظهري ونكصت على عقبي, وقلت: يازينب أبشري أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك, قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي عز وجل, فقامت إِلى مسجدها, ونزل القرآن, وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إِذن, ولقد رأيتنا حين دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطعمنا عليها الخبز واللحم, فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام, فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعته, فجعل صلى الله عليه وسلم يتتبع حجر نسائه يسلم عليهن ويقلن: يارسول الله كيف وجدت أهلك ؟ فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبر, فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه, فألقى الستر بيني وبينه, ونزل الحجاب ووعظ القوم بما وعظوا به {لا تدخلوا بيوت النبي إِلا أن يؤذن لكم} الاَية كلها, ورواه مسلم والنسائي من طرق عن سليمان بن المغيرة به.
وقد روى البخاري رحمه الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إِن زينب بنت جحش رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي فتقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سموات, وقد قدمنا في سورة النور عن محمد بن عبد الله بن جحش قال: تفاخرت زينب وعائشة رضي الله عنهما, فقالت زينب رضي الله عنها: أنا الذي نزل تزويجي من السماء, وقالت عائشة رضي الله عنها: أنا التي نزل عذري من السماء, فاعترفت لها زينب رضي الله عنها. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن المغيرة عن الشعبي قال: كانت زينب رضي الله عنها تقول للنبي صلى الله عليه وسلم إِني لأدلي عليك بثلاث, وما من نسائك امرأة تدلي بهن: إِن جدي وجدك واحد, وإِني أنكحنيك الله عز وجل من السماء, وإِن السفير جبريل عليه الصلاة والسلام.
وقوله تعالى: {لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إِذا قضوا منهن وطر} أي إِنما أبحنا لك تزويجها, وفعلنا ذلك لئلا يبقى حرج على المؤمنين في تزويج مطلقات الأدعياء, وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قبل النبوة قد تبنى زيد بن حارثة رضي الله عنه, فكان يقول له زيد بن محمد, فلما قطع الله تعالى هذه النسبة بقوله تعالى: {وما جعل أدعياءكم أبناءكم ـ إِلى قوله تعالى ـ ادعوهم لاَبائهم هو أقسط عند الله} ثم زاد ذلك بياناً وتأكيداً بوقوع تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها, لما طلقها زيد بن حارثة رضي الله عنه, ولهذا قال تعالى في آية التحريم {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} ليحترز من الابن الدعي, فإِن ذلك كان كثيراً فيهم. وقوله تعالى: {وكان أمر الله مفعول} أي وكان هذا الأمر الذي وقع قد قدره الله تعالى وحتمه وهو كائن لامحالة, كانت زينب رضي الله عنها في علم الله ستصير من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.

** مّا كَانَ عَلَى النّبِيّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللّهُ لَهُ سُنّةَ اللّهِ فِي الّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ قَدَراً مّقْدُوراً
يقول تعالى: {ماكان على النبي من حرج فيما فرض الله له} أي فيما أحل له وأمره به من تزويج زينب رضي الله عنها التي طلقها دعيه زيد بن حارثة رضي الله عنه. وقوله تعالى: {سنة الله في الذين خلوا من قبل} أي هذا حكم الله تعالى في الأنبياء قبله لم يكن ليأمرهم بشيء وعليهم في ذلك حرج, وهذا رد على من توهم من المنافقين نقصاً في تزويجه امرأة زيد مولاه ودعيه الذي كان قد تبناه {وكان أمر الله قدراً مقدور} أي وكان أمره الذي يقدره كائناً لا محالة وواقعاً لا محيد عنه ولا معدل, فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

** الّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاَتِ اللّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاّ اللّهَ وَكَفَىَ بِاللّهِ حَسِيباً * مّا كَانَ مُحَمّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَـَكِن رّسُولَ اللّهِ وَخَاتَمَ النّبِيّينَ وَكَانَ اللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً
يمدح تبارك وتعالى {الذين يبلغون رسالات الله} أي إلى خلقه ويؤدونها بأماناتها {ويخشونه} أي يخافونه ولا يخافون أحداً سواه, فلا تمنعهم سطوة أحد عن إِبلاغ رسالات الله تعالى {وكفى بالله حسيب} أي وكفى بالله ناصراً ومعيناً, وسيد الناس في هذا المقام بل وفي كل مقام محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإِنه قام بأداء الرسالة وإِبلاغها إِلى أهل المشارق والمغارب إِلى جميع أنواع بني آدم, وأظهر الله تعالى كلمته ودينه وشرعه على جميع الأديان والشرائع, فإِنه قد كان النبي قبله إِنما يبعث إِلى قومه خاصة, وأما هو صلى الله عليه وسلم فإِنه بعث إِلى جميع الخلق عربهم وعجمهم {قل ياأيها الناس إِني رسول الله إِليكم جميع} ثم ورث مقام البلاغ عنه أمته من بعده, فكان أعلى من قام بها بعده أصحابه رضي الله عنهم, بلغوا عنه كما أمرهم به في جميع أقواله وأفعاله وأحواله, في ليله ونهاره, وحضره وسفره, وسره وعلانيته, فرضي الله عنهم وأرضاهم ثم ورثه كل خلف عن سلفهم إِلى زماننا هذا, فبنورهم يقتدي المهتدون, وعلى منهجهم يسلك الموفقون, فنسأل الله الكريم المنان أن يجعلنا من خلفهم.
قال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير, أخبرنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمر الله فيه مقال ثم لا يقوله, فيقول الله ما يمنعك أن تقول فيه ؟ فيقول رب خشيت الناس, فيقول: فأنا أحق أن يخشى» ورواه أيضاً عن عبد الرزاق عن الثوري عن زبيد عن عمرو بن مرة. ورواه ابن ماجه عن أبي كريب عن عبد الله بن نمير وأبي معاوية كلاهما عن الأعمش به.
وقوله تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} نهى أن يقال بعد هذا زيد بن محمد, أي لم يكن أباه وإِن كان قد تبناه, فإنه صلى الله عليه وسلم لم يعش له ولد ذكر حتى بلغ الحلم فإِنه صلى الله عليه وسلم ولد له القاسم والطيب والطاهر من خديجة رضي الله عنها, فماتوا صغاراً وولد له صلى الله عليه وسلم إبراهيم من مارية القبطية, فمات أيضاً رضيعاً, وكان له صلى الله عليه وسلم من خديجة أربع بنات: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة رضي الله عنهم أجمعين, فمات في حياته صلى الله عليه وسلم ثلاث, وتأخرت فاطمة رضي الله عنها حتى أصيبت به صلى الله عليه وسلم, ثم ماتت بعده لستة أشهر.
وقوله تعالى: {ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليم} كقوله عز وجل: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} فهذه الاَية نص في أنه لانبي بعده, وإِذا كان لانبي بعده فلا رسول بعده بالطريق الأولى والأحرى, لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة, فإِن كل رسول نبي ولا ينعكس, وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر الأزدي, حدثنا زهير بن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل, عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثلي في النبيين كمثل رجل بنى داراً فأحسنها وأكملها, وترك فيها موضع لبنة لم يضعها, فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ويقولون: لو تم موضع هذه اللبنه, فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة» ورواه الترمذي عن بندار عن أبي عامر العقدي به, وقال حسن صحيح.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا عبد الواحد بن زياد, حدثنا المختار بن فلفل, حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعد ولا نبي» قال: فشق ذلك على الناس, فقال: «ولكن المبشرات» قالوا: يارسول الله وما المبشرات ؟ قال: «رؤيا الرجل المسلم, وهي جزء من أجزاء النبوة» وهكذا رواه الترمذي عن الحسن بن محمد الزعفراني عن عفان بن مسلم به, وقال: صحيح غريب من حديث المختار بن فلفل.
(حديث آخر) قال أبو داود الطيالسي: حدثنا سليم بن حيان عن سعيد بن ميناء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى داراً فأكملها وأحسنها إِلا موضع لبنة, فكان من دخلها فنظر إِليها قال: ما أحسنها إِلا موضع هذه اللبنة, فأنا موضع اللبنة ختم بي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» ورواه البخاري ومسلم والترمذي من طرق عن سليم بن حيان به, وقال الترمذي: صحيح غريب من هذا الوجه.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثلي ومثل النبيين كمثل رجل بنى داراً فأتمها إِلا لبنة واحدة, فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة» انفرد به مسلم من رواية الأعمش به.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد, حدثنا حماد بن زيد, حدثنا عثمان بن عبيد الراسبي قال: سمعت أبا الطفيل رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لانبوة بعدي إِلا المبشرات» قيل: وما المبشرات يارسول الله ؟ قال «الرؤيا الحسنة» ـ أو قال ـ «الرؤيا الصالحة».
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتاً فأكملها وأحسنها وأجملها إِلا موضع لبنة من زاوية من زواياها, فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيان ويقولون: ألا وضعت ههنا لبنة فيتم بنيانك ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فكنت أنا اللبنة» أخرجاه من حديث عبد الرزاق.
(حديث آخر) عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً قال الإمام مسلم: حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وعلي بن حجر قالوا حدثنا إِسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم, ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم, وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً, وأرسلت إِلى الخلق كافة, وختم بي النبيون» ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث إِسماعيل بن جعفر, وقال الترمذي: حسن صحيح.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى داراً فأتمها إِلا موضع لبنة واحدة, فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة» ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب كلاهما عن أبي معاوية به.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, حدثنا معاوية بن صالح, حدثنا سعيد بن سويد الكلبي عن عبد الأعلى بن هلال السلمي, عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «إِني عند الله لخاتم النبيين, وإِن آدم لمنجدل في طينته».
(حديث آخر) قال الزهري: أخبرني محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِن لي أسماء أنا محمد, وأنا أحمد, وأنا الماحي الذي يمحو الله تعالى بي الكفر, وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي, وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي» أخرجاه في الصحيحين.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى ابن إِسحاق, حدثنا ابن لهيعة عن عبد الله ابن هبيرة عن عبد الرحمن بن جبير قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً كالمودع فقال: «أنا محمد النبي الأمي ـ ثلاثاً ـ ولانبي بعدي, أوتيت فواتح الكلم وجوامعه وخواتمه, وعلمت كم خزنة النار وحملة العرش, وتجوز بي , وعوفيت وعوفيت أمتي, فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم, فإِذا ذهب بي فعليكم بكتاب الله تعالى أحلوا حلاله, وحرموا حرامه» تفرد به الإمام أحمد.
ورواه الإمام أحمد أيضاً عن يحيى بن إِسحاق عن ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة لهيعة عن عبد الله بن سريج الخولاني عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص, عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما, فذكر مثله سواء, والأحاديث في هذا كثيرة, فمن رحمة الله تعالى بالعباد إِرسال محمد صلى الله عليه وسلم إِليهم, ثم من تشريفه لهم ختم الأنبياء والمرسلين به وإِكمال الدين الحنيف له, وقد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم في السنة المتواترة عنه أنه لا نبي بعده, ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب وأفاك دجال ضال مضل, لو تحرق وشعبذ وأتى بأنواع السحر والطلاسم والنيرنجيات فكلها محال وضلال عند أولي الألباب كما أجرى الله سبحانه وتعالى على يد الأسود العنسي باليمن ومسيلمة الكذاب باليمامة من الأحوال الفاسدة والأقوال الباردة ما علم كل ذي لب وفهم وحجى أنهما كاذبان ضالان لعنهما الله, وكذلك كل مدع لذلك إِلى يوم القيامة حتى يختموا بالمسيح الدجال, فكل واحد من هؤلاء الكذابين يخلق الله تعالى معه من الأمور ما يشهد العلماء والمؤمنون بكذب من جاء بها, وهذا من تمام لطف الله تعالى بخلقه, فإِنهم بضرورة الواقع لا يأمرون بمعروف ولاينهون عن منكر إِلا على سبيل الاتفاق أو لما لهم فيه من المقاصد إِلى غيره ويكون في غاية الإفك والفجور في أقوالهم وأفعالهم, كما قال تعالى: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم} الاَية, وهذا بخلاف حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام, فإِنهم في غاية البر والصدق والرشد والاستقامة والعدل فيما يقولونه ويفعلونه ويأمرون به وينهون عنه, مع ما يؤيدون به من الخوارق للعادات والأدلة الواضحات والبراهين الباهرات, فصلوات الله وسلامه عليهم دائماً مستمراً ما دامت الأرض والسموات.

** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ اللّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * هُوَ الّذِي يُصَلّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً * تَحِيّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بكثرة ذكرهم لربهم تبارك وتعالى المنعم عليهم بأنواع النعم وصنوف المنن, لما لهم في ذلك من جزيل الثواب, وجميل المآب. قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله بن سعيد, حدثني مولى ابن عياش عن أبي بحرية عن أبي الدرداء رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم, وخير لكم من إِعطاء الذهب والورق, وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم» قالوا: وما هو يارسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «ذكر الله عز وجل» وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن زياد مولى ابن عياش عن أبي بحرية واسمه عبد الله بن قيس البراغمي عن أبي الدرداء رضي الله عنه به, قال الترمذي: رواه بعضهم عنه فأرسله. قلت وقد تقدم هذا الحديث عند قوله تعالى: {والذاكرين الله كثيراً والذاكرات} في مسند الإمام أحمد من حديث زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش أنه بلغه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه, فالله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا فرج بن فضالة عن أبي سعيد الحمصي قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: دعاء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أدعه: اللهم اجعلني أعظم شكرك, وأتبع نصيحتك, وأكثر ذكرك, وأحفظ وصيتك, ورواه الترمذي عن يحيى بن موسى عن وكيع عن أبي فضالة الفرج بن فضالة عن أبي سعيد الحمصي عن أبي هريرة رضي الله عنه, فذكر مثله, وقال: غريب, وهكذا رواه الإمام أحمد أيضاً عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن فرج بن فضالة عن أبي سعيد المري عن أبي هريرة رضي الله عنه, فذكره.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن عمرو بن قيس قال: سمعت عبد الله بن بسر يقول: جاء أعرابيان إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: يارسول الله أي الناس خير ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «من طال عمره وحسن عمله» وقال الاَخر: يارسول الله إِن شرائع الإسلام قد كثرت علينا, فمرني بأمر أتشبث به, قال صلى الله عليه وسلم: «لايزال لسانك رطباً بذكر الله تعالى» وروى الترمذي وابن ماجه الفصل الثاني من حديث معاوية بن صالح به, وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سريج, حدثنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث قال: إِن دراجاً أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «أكثروا ذكر الله تعالى حتى يقولوا مجنون». وقال الطبراني: حدثنا عبد الله بن أحمد, حدثنا عقبة بن مكرم العمي, حدثنا سعيد بن سفيان الجحدري, حدثنا الحسن بن أبي جعفر عن عقبة بن أبي ثبيب الراسبي عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذكروا الله ذكراً كثيراً حتى يقول المنافقون إِنكم تراؤون».
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم, حدثنا شداد أبو طلحة الراسبي, سمعت أبا الوازع جابر بن عمرو يحدث عن)عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من قوم جلسوا مجلساً لم يذكروا الله تعالى فيه إلا رأوه حسرة يوم القيامة». وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {اذكروا الله ذكراً كثير} إن الله تعالى لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً, ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر, فإن الله تعالى لم يجعل له حداً ينتهي إليه, ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على تركه, فقال: {يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم} بالليل والنهار في البر والبحر, وفي السفر والحضر, والغنى والفقر, والسقم والصحة, والسر والعلانية, وعلى كل حال. وقال عز وجل: {وسبحوه بكرة وأصيل} فإذا فعلتم ذلك صلى عليكم هو وملائكته, والأحاديث والاَيات والاَثار في الحث على ذكر الله تعالى كثيرة جداً, وفي هذه الاَية الكريمة الحث على الإكثار من ذلك. وقد صنف الناس في الأذكار المتعلقة بآناء الليل والنهار كالنسائي والمعمري وغيرهما. ومن أحسن الكتب المؤلفة في ذلك كتاب الأذكار للشيخ محيي الدين النووي رحمه الله.
وقوله تعالى: {وسبحوه بكرة وأصيل} أي عند الصباح والمساء, كقوله عز وجل {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون * وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون} وقوله تعالى: {هو الذي يصلي عليكم وملائكته} هذا تهييج إلى الذكر, أي أنه سبحانه يذكركم فاذكروه أنتم, كقوله عز وجل {كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون * فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون} وقال النبي صلى الله عليه وسلم «يقول الله تعالى: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي, ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه» والصلاة من الله تعالى ثناؤه على العبد عند الملائكة, حكاه البخاري عن أبي العالية, ورواه أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عنه, وقال غيره: الصلاة من الله عز وجل الرحمة. وقد يقال: لا منافاة بين القولين, والله أعلم.
وأما الصلاة من الملائكة فبمعنى الدعاء للناس والاستغفار, كقوله تبارك وتعالى: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم * ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك انت العزيز الحكيم * وقهم السيئات} الاَية. وقوله تعالى: {ليخرجكم من الظلمات إلى النور} أي بسبب رحمته بكم وثنائه عليكم ودعاء ملائكته لكم, يخرجكم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى واليقين {وكان بالمؤمنين رحيم} أي في الدنيا والاَخرة, أما في الدنيا فإنه هداهم إلى الحق الذي جهله غيرهم, وبصرهم الطريق الذي ضل عنه وحاد عنه من سواهم من الدعاة إلى الكفر أو البدعة وأتباعهم من الطغاة, وأما رحمته بهم في الاَخرة فآمنهم من الفزع الأكبر وأمر ملائكته يتلقونهم بالبشارة بالفوز بالجنة والنجاة من النار وما ذاك إلا لمحبته لهم ورأفته بهم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه رضي الله عنهم, وصبي في الطريق, فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ, فأقبلت تسعى وتقول: ابني, ابني, وسعت فأخذته, فقال القوم: يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار, قال فخفضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال «لا, والله لايلقي حبيبه في النار» إسناده على شرط الصحيحين, ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة, ولكن في صحيح الإمام البخاري عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امراة من السبي قد أخذت صبياً لها فألصقته إلى صدرها وأرضعته, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أترون هذه تلقي ولدها في النار وهي تقدر على ذلك ؟» قالوا: لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فوالله لله أرحم بعباده من هذه بولدها»
وقوله تعالى: {تحيتهم يوم يلقونه سلام} الظاهر أن المراد ـ والله أعلم ـ تحيتهم, أي من الله تعالى يوم يلقونه سلام أي يوم يسلم عليهم كما قال عز وجل: {سلام قولاً من رب رحيم} وزعم قتادة أن المراد أنهم يحيي بعضهم بعضاً بالسلام يوم يلقون الله في الدار الاَخرة, واختاره ابن جرير. (قلت) وقد يستدل له بقوله تعالى: {دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}. وقوله تعالى: {وأعد لهم أجراً كريم} يعني الجنة وما فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح والملاذ والمناظر, مما لا عين رأت ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر.